يُخيل إلى البعض أن السير لا توثق ولا تُنشر إلا إذا رافقها إنجازات عظيمة لصاحبها، فلا سيرة تستحق أن تُروى إلا إذا كانت لسياسيٍ بارز، أو زعيم خالد، أو أديب مذهل، أو صاحب شركات مليارية، وهذا في رأيي منظور قاصر، فالسيرة قيمتها في أحداثها وجولاتها وندرة قصتها، ولا تكمن قيمتها حصرًا في نهايتها أو مآلاتها، وإذا اعتمدنا معيار الأحداث والندرة، فليس ثمة سيرة ولا حتى عمل درامي يمكن أن يضاهي سيرة الوالد.

وُلد أبي في أوائل شهر يناير من عام 1958 في مدينة المنيا لأبٍ من أصل تركيّ وأم مصرية صعيدية، فـ جده المباشر من ناحية الأب كما تظهر بطاقة الهوية المدنية اسمه "العنتبلي" نسبةً إلى مدينة "عنتاب" جنوب تركيا، وأغلب الظن أنه كان من ضمن أفراد الحملة العثمانية التي جاءت إلى مصر في أوائل القرن التاسع عشر؛ أما الأم فكما ذكرت كانت مصرية خالصة، ولا يعرف الوالد عنها سوى اسمها الذي كان ربما مخالفًا للأحداث اللاحقة؛ اسمها "حياة" ولكنها توفت بعد أشهر قليلة جدًا من ولادة أبي (6 أشهر تقريبًا) لذلك لم يشهدها أبي أبدًا ولم يرى حتى صورة لها؛ ولا يجمعه بها أي موقف سوى أكواب الشاي التي شهد إخوته أنها كانت تعدها إليه حتى يهدأ من البكاء، فكان والدي يستمتع بكوب الشاي وهو رضيع أكثر من الحليب، وكان يكف عن البكاء بمجرد وجوده، ومن يعرف أبي فلن يستبعد تلك الرواية نظرًا لاحتلال الشاي مكانة خاصة في قلبه، فـ به يبدأ اليوم وبه ينتهي وهو الغاية من كل لقمة عيش تُؤكل سعيًا لإلحاقها بكوب شاي ثقيل بعدها، ولا معنى لأي شيء بدون كوب الشاي الساخن.

بعد وفاة جدتي بسنوات قليلة، لحق بها جدي "إبراهيم" ليصبح والدي يتيم الأب والأم في سنٍ مبكر جدًا قبل أن يتم السادسة من عمره، ولكن وفاة والده وهو في سن السادسة هذه المرة جعله يتذكر بعض اللقطات له -بعكس والدته التي لم يرى حتى صورتها- ولكن بشكل ضبابي ومحدود، فما يذكره والدي عن جدي أنه كان مهيبًا طويل القامة امتزجت بشرته بالحمرة وله شارب جميل ولكنه كان حاد المزاج ويتجنبه الناس بشكلٍ كبير تفاديًا لإثارة أعصابه، ويذكر والدي مشهدًا دائم التكرار على ذاكرته ولسانه فيذكر أن جدي كان يضعه فوق كتفيه ويطوف به فرحًا في الشوارع عند بعض الاحتفاليات والمناسبات الاجتماعية أو الدينية، ليجعله يرى العالم من الأعلى ويذكر والدي بوضوح الحلوى التي جلبها إليه في احتفالية المولد النبوي الشريف الوحيدة التي يتذكرها وحضرها معه، وكان جدي فرحًا مستبشرًا بأبي كونه الابن الذكر الوحيد الذي جاء بعد أربعة بنات، ولكن لم تستمر فرحته طويلًا وتوفى قبل حتى أن يشهد دخوله المدرسة، وهكذا وجد أبي نفسه طفلاً وحيدًا في مواجهة حياة صعبة مجهولة دون أخٍ أو أب أو أم؛ ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فبعد فترةٍ وجيزة من وفاة جدي جاء أمر بهدم المنزل الذي كان يمتلكه الجد والذي كان يأوي أطفاله من بعده، وكان ذلك تحت دعوى المنفعة والمصلحة العامة للدولة لتوسعة الطرق وأغراضٍ أخرى، مع وعد الورثة بتعويضٍ مالي قريب يقر العين، وهكذا وجد والدي نفسه أيضًا بلا مأوى؛ لم ينقذه أحد حينها من براثن الأيام بعد الله سوى خالته (ألماظ) زوجة الشيخ (عبدالوهاب الطويل) الذي كان تاجرًا، فاحتضنته وقامت على رعايته وتربيته وإطعامه ويبدو أنها لم ترزق بالأطفال فاعتبرت والدي بمثابة الابن الذي لم تُرزق به، وحرصت على أن يكمل تعليمه ويستأنف الدراسة مثل أي طفلٍ آخر، ولكن في سبيل ذلك اضطر والدي في سنٍ مبكر (من المرحلة الإبتدائية) أن يعمل عند زوج خالته (الشيخ عبدالوهاب الطويل) وابنه، طوال فترة طفولته تقريبًا بالمجان، فكان في معظم أيام السنة وخصوصًا في أيام الإجازة يقضي ساعات عمل طويلة داخل دكان زوج خالته، وكانت هذه الساعات تمتد أحيانًا إلى 14 ساعة تقريبًا، من الساعة السادسة صباحًا حتى الساعة الثامنة مساءً، وهذا كله بالمجان مقابل رعايته وإيواءه. يذكر والدي أن خالته كانت توقظه عند آذان الفجر ليبدأ يوم عمله مستعدًا لمواجهة يوم طويل بكوب الشاي الساخن والشطائر الشهية لينطلق ويفتح المحل، وكان في طريقه دائمًا ما يصادف عربة "بليلة" اسمها "بليلة أبو السعود" في شارع يطلق عليه "شارع الجزارين" وهو من أقدم شوارع مدينة المنيا ومازال حتى الآن قائمًا على اسمه، ويذكر الوالد أن عمله هذا بدأ في أوائل المرحلة الإبتدائية إلى نهاية المرحلة الإعدادية، أي ما يقارب 8 سنوات تقريبًا، وهي جُل إن لم تكن كل سنوات الطفولة، فقضى والدي أيام طفولته يعمل بالمجان تقريبًا، مفتقدًا للأب والأم ومفتقدًا حتى لمعنى "البيت" والمأوى. وبالرغم من ذلك يُذهلني أنه لا يتحدث عن أيام طفولته بشكلٍ مأساوي ولا أن يذكرها  بطريقة درامية، ولكن كان يصفها كما هي بثبات دون تهويل أو مبالغات فضلاً على أنه -ويا للعجب- دائمًا ما يلحق رواياته بـ جملة "والله كانت أيام حلوة" مستذكرًا الأيام التي كان يسافر فيها أحيانًا إلى مدينة "الفيوم" حيث تقيم خالته الأخرى وزوجها وأبنائها، ويصف الفيوم آنذاك وكأنه يصف الجنة، فيصف مذاق العسل النقي المصفى وكيف كان يأكله مع الفطائر، ويستدعي طعم الفواكه والمناظر الخلابة والبحيرات، وحتى عند وصفه لحادثة كادت أن تودي بحياته وهو طفل صغير يستذكرها ضاحكًا،  ففي رحلة من تلك الرحلات إلى مدينة الفيوم دخل والدي إلى أعماق "بحيرة قارون" تقريبًا وهو طفل غير واعٍ دون أن يلتفت إليه أحد، وعندما لاحظت عمتي حينها غيابه صارت تتلفت وتنظر فإذا بها تجده داخل البحيرة يصارع لالتقاط الأنفاس فصاحت وألقت نفسها في البحيرة وأنقذته في آخر اللحظات بأعجوبة بالغة.

للاستئناف في أجزاءٍ لاحقة.