وداع القافلة؛ إلى وادٍ غير ذي زرع!
في مثل هذه الأيام منذ 5 سنوات تقريبًا أنهيت حياتي الأكاديمية وتخرجت من جامعتي؛ هذه اللحظة يمكنني أن أطلق عليها لحظة وداع القافلة والمسيرة الجماعية. تتسم الحياة الجامعية بالمصير المشترك شبه الموحد، مع تقويم وجدولة ثابتة للأحداث المنتظرة ومحطات الوصول والتوقف، فبداية الدراسة بتوقيت محدد وجدول المحاضرات والاختبارات وكل شئ تقريبًا ثابت ومشترك، كل ما عليك فعله هو أن تكون مُسافرًا ملتزمًا قدر الإمكان وأن لا تحيد عن طريق القافلة الجماعية حتى لا تضل الطريق أو تفقدهم فتأكلك السباع، حينها يمكنك أن تصل إلى الواجهة سالمًا غانمًا مادمت لم تشرد كثيرًا، والواجهة معروفة وواضحة سلفًا: محطة نهائية تتسلم بها شهادتك الجامعية بأقل الخسائر الممكنة وفي أسرع وقت ممكن. مصير مشترك لكل المسافرين، وخالي من أي مفاجآت، لا يمكن أن تجد مع هذه الشهادة ثلاثة ملايين دولار، ولا يمكن أن تجد معها ثعبان الأناكوندا.. فقط ورقة مطبوعة بقالب تصميمي موحد لجميع الخريجين، والاختلاف في بعض الكلمات المكتوبة بداخلها فقط لا غير. لكن ماذا بعد الوصول إلى تلك المحطة؟ هل هناك قافلة أخرى بانتظارك لرحلة تالية آمنة إلى واجهة معروفة؟
كانت الإجابة واضحة: لا. لا قافلة بعد اليوم، ولا واجهات آمنة.. عليك المسير وحدك، في صحراء مجهولة وبـ زاد محدود، لا يمكنك الانتظار طويلًا، لن يأتي أحدًا بـ خيلٍ لنجدتك.. إما أن تتحرك الآن، وإما ستتأخر كثيرًا..
كيف يمكنك تجنب السير وراء السراب؟
السراب في اللغة هو الوهم أو الأمور الخادعة بما تبدو عليه ظاهريًا، اشتقاقًا دلاليًا من الانعكاس الخادع الذي يظهر بالصحراء عند اشتداد الحر ليبدو كأنه ماء، وهو ليس كذلك.
هذا ما ستجده بكثرة أثناء سيرك في رحلة استكشاف الوديان بعد التخرج، فكيف يمكنك تجنب السراب؟ دعنا نفصل أنواعه
أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئً
سورة النور - الآية 39
سراب الشغف.. قم بتفكيك شغفك إلى مهارات أولًا!
من ضمن المعضلات الشائع تواجدها هي معضلة الشغف والسير وراءه، اتباع الشغف قد يكون سرابًا إن لم تتم إداراته بحرص وحكمة، الشغف هو حب القيام بأشياء بعينها دون غيرها، وهذا ظاهر الأمر دون تحليل وتفنيد؛ وهذا قد يقود إلى تهلكة مهنية، لأن شغفك قد يكون في أشياء غير مربحة وليس لها توصيف او مسار مهني تطوري واضح. إذًا ما العمل؟ الشيء الذي يمكنك فعله اتجاه الشغف هو تفكيكه أولًا إلى مهارات بشكل استنباطي بناءً على ماهيته، وهذا المستوى الأكثر تحليلًا وعمقًا للشغف لتحويله إلى أشياء واضحة ومفيدة، نعطي مثال؟ إليك مثال: إن كنت شديد الشغف بالألعاب وتحب تجربتها وإكمالها وإنهائها والوصول إلى مستويات متقدمة بها فهذا لا يعني أن تحصر نفسك في نقطة “ستريمر” محتمل فحسب، لأن هذا غالبًا يعكس عدة مهارات بشخصيتك، ألا وهي:
مهارة حل المشكلات، مهارة التخطيط الاستراتيجي، مهارة التفكير النقدي
كما أن لذلك دلالة على وجود بعض السمات بك، ألا وهي:
تتسم بالصبر، مُحب للتحدي، تهتم بالتفاصيل، تركيز جيد وذهن حاضر، وإلى آخره..
الآن قمت بتفكيك الشغف أو الهواية إلى عدة مهارات وسمات شخصية بعد التحليل والمعالجة، كيف أوظف تلك المهارات بالمسارات المهنية؟
مهارة حل المشكلات وسمة الصبر وحضور الذهن هي من الدلالات المحتملة لوجود مطور (مبرمج) استثنائي بداخلك، لا يوجد أبدًا مطور ناجح ليس به تلك المهارات والسمات، فالآن عليك تجربة هذا الطريق لعلك تجد به ضالتك!
وبنفس الطريقة يمكنك الاجتهاد في تحليل وتفكيك شغفك إلى عدة مهارات وسمات أولًا، وتلك المهارات والسمات ستساعدك في توليد طرق متعددة محتملة، كل هذه الطرق تخضع لنفس تلك المهارات والسمات، وطريق واحد منهم على الأقل ستجد به ما تريد ويظل في إطار شغفك كذلك وستحب حينها ما تعمل.
سراب “الترند”: مغالطة الاحتكام إلى العامة
مثلًا؛ كون أن الجميع حاليًا ينجذب تعليميًا إلى تحليل البيانات، هذا لا يعني أن تحليل البيانات هو المسار المهني الأفضل والأكثر توافرًا والأنسب لك، الحقيقة كون أن العامة توجهوا إلى أمرٍ ما هو لا يعني أي شيء على الإطلاق، لو أن الجميع غيروا مسارهم المهني هذا لا يعني أنه عليك تغييره كذلك، كون الجميع استمروا مهنيًا على نفس التخصص الأكاديمي هذا لا يعني كذلك أي شيء. البشر كائنات اجتماعية تتأثر بما يدور حولها وبما هو شائع، دون النظر مليًا في تفاصيله، حقيقةً استدعيت مثال تحليل البيانات تحديدًا لأنه قد يخدم تلك الفكرة بوضوح، دعني أشرح لماذا:
تحليل البيانات يعني أن هناك بيانات ضخمة جدًا بحاجة إلى تحليل، وهذا التحليل هدفه تحقيق استفادة ما من أرقامه لتحويلها إلى إجراءات يفهمها البيزنس أو المنتج لجني مصالح معينة أو تجنب مشاكل محتملة، تذكر أن البيانات غالبًا ما تكون “ضخمة” لدرجة أنها تحتاج إلى تحليل، لماذا أشرت إلى الضخامة هنا؟ لأن الضخامة تعني أن تلك البيانات تابعة لشركة كبيرة أو مؤسسة عملاقة، كم عدد الذين يطاردون تلك المؤسسات العملاقة للتوظيف بها؟ وما مدى احتمالية توظيفك بهذه الشركة الكبيرة؟ أو نقطة أخرى: كم عدد تلك الشركات والمؤسسات التي تملك بيانات ضخمة فضلًا عن إدراكها لأهمية تحليلها؟ مقارنةً ببقية الشركات التي لا تهتم بهذا التخصص سواء كان بسبب غياب الوعي أو قلة البيانات أو عدم أهميتها أو حتى إمكانية أتمتة تحليلها من خلال بعض الأدوات الجاهزة دون الحاجة إلى متخصص..
أود الإشارة كذلك أنه بالرغم من شيوع و رواج تعلم هذا المجال إلا أنه من أصعب المجالات وأقلها احتمالية للتميز، ليس إحباطًا، ولكن تحليل البيانات يحتاج إلى متطلبات سابقة عريضة مثل مستويات متقدمة في الرياضيات وعلوم الإحصاء وغيرها.. وعلى الرغم من ذلك قد يقع الكثير في هذا الفخ المُحبط لهم والمستنزف لطاقتهم ووقتهم دون جدوى، وذلك لأنهم لم يروا أبعاد الموضوع بشكلٍ كامل، ووقعوا في مغالطة “الاحتكام إلى العامة”.. علوم البيانات مجال أكثر من رائع، لكن هذا مجرد مثال فقط للاستئناس.
سراب المشاريع الخاصة: ليست هكذا تُدار الأمور!
طبقًا للاحصائيات فإن 90% من الشركات الناشئة تفشل، هذا يعني أن مشروعك الجديد أكثر عرضة للفشل بحوالي 10 أضعاف احتماليته للنجاح والاستمرار. والفشل لا تكمن خطورته فقط بالإغلاق أو عدم الاستمرارية، لكن يعني خسارة أموال وعلاقات وإحباط والعديد من التبعيات السيئة. لماذا تفشل الشركات الناشئة؟ هذا قد يكون عنوان لرسالة ماجسيتر أو دكتوراة ولا يمكننا حصر ودراسة كل الأسباب هنا.. لكن بالتأكيد من ضمن تلك الأسباب هو انعدام أو قلة الكفاءة والخبرة مع توهم امتلاكهم. دراسة أخرى أود الإشارة إليها وهي أكثر صلةً بموضوعنا:
معدل أعمار مُلاك الشركات الناشئة الناجحة هو 45 عام أليس لهذا دلالة واضحة على أن الرغبة الجامحة لإنشاء شركتك الخاصة في السنوات التالية للتخرج مباشرةً قد تكون سرابًا وقرار غير مدروسًا وأنت بعمر الـ 23-28 عام؟
بالطبع هذه ليست قاعدة، هناك دائمًا استثناءات.. لكن تلك الأرقام جديرة بالتأمل.
احرص على جعل سنواتك الأولى بعد التخرج هي سنوات التعلم واكتساب الخبرة وبناء العلاقات والتعرف على طبائع البشر المختلفة والتعامل مع نوعيات مختلفة من الشخصيات، واكتساب أرضية صلبة في تخصص أو مجال بعينه ومعرفة كل خباياه وأسراره، وصقل مهاراتك والعمل على تعزيز نقاط قوتك ومعرفة آلية تفادي نقاط ضعفك إن كانت مستعصية على الإصلاح.. أما أن توجه ضربة اتجاه مشروع ناشئ في بداية حياتك.. قد لا يكون هذا أفضل قرار في تلك اللحظة. اصبر وترقب واهدأ.
سراب الأموال.. هل يمكننا فك الشيفرة؟
ليس هذا مكانًا لخداعك، وهدفي من هذه المقالة مساعدتك.. فلن أكذب عليك: نعم هناك مجالات حاليًا معدل الرواتب بها أعلى بمراحل من مجالات أخرى وبشكلٍ واضح..
إن كنت تعمل كمعلم في مدرسة مثلًا وكان متوسط ما تتقاضاه هو X وانتقلت للعمل بالمجال الرقمي وصناعة البرمجيات مثلًا فإن المتوسط الذي قد تجده هو 2X تقريبًا، وأكثر بمرور الوقت، هذا على سبيل المثال.. وهذا من واقع تجربة شخصية عندما انتقلت من مجال الهندسة الميكانيكية إلى مجال المنتجات الرقمية.. إذًا لماذا أقول “سراب الأموال” ؟
لأن سر الأموال كله يكمن في الندرة لا أكثر، إما ندرة مهاراتك، وإما ندرة تميزك، وإما ندرة تأثيرك.. ويمكنك تنفيذ هذه الندرة في أي مجال أيًا كان دون تقييد النفس وإجبارها للانتقال إلى ساحة أعلى في معدل الرواتب حتى وإن كانت لا تناسبني، ماذا يعني ذلك؟
في نفس المثال، إن كنت معلم فقد تجد نفسك لا تحب المجال الرقمي ولا تجد نفسك به، وإنما تحب تخصصك.. ومشكلتك تكمن فقط في أنك تريد دخل أعلى دون الاضطرار إلى ترك مجالك، وهذا الدخل الأعلى يوجد في مكان آخر تكرهه.. معضلة أليست كذلك؟
إن كنت حينها ستتخذ خطوة الانتقال إلى مجال آخر لمجرد الأموال دون حب ودون تميز، فهذا هو تحديدًا ما أعنيه هنا بـ “سراب الأموال”.. إذًا ما العمل؟ أن تحفر أنفاقًا داخل مجال تخصصك الذي (تحبه)، وتنقب عن كل الآثار بداخله، إن كنت معلمًا وتحرص على زيادة الدخل فاستخدم نفس السلاح الذي تجيده وتتقنه، لا تستعين بسلاح خارجي لحفر ذات النفق.. كن متميزًا في طبيعة الشرح والإلقاء، في علاقتك مع الطلاب وأولياء الأمور، في الوصول إلى أعمق نقطة معرفية بالتخصص، اتقن فن السرد.. استخدم تكنولوجيا في الإيصال المعرفي أعلى من أقرانك، قم بصياغة مذكرات وملخصات المادة بشكلٍ أفضل، تقدم دائمًا خطوات وأميال أكثر من البقية، حينها ستحقق مبدأ الندرة والتميز، وبشكل تلقائي ستجد أن الدخل ازداد والأموال جاءت وشيفرة الأموال قد بدأت تُحل.. لم يكن عليك في البداية التفكير بشكلٍ خارجي إلزامي بخصوص الأموال.. في كل المجالات هناك دائمًا أنفاق وآبار.. صل إليها ونقب بها ولن تحتاج حينئذ للسعي وراء سراب الأموال.